العبد التائب 12/12/1444هـ
الحمد
لله، {جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ
أَوْ أَرَادَ شُكُورًا}، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا
عبده ورسوله، إمام التائبين، وسيد المستغفرين، وخير الشاكرين، صلى الله عليه وعلى
آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما
بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله في أعماركم، فإن الله سائل عبده عن عمره فيما
أفناه.
أيها الأحبة: ها هو ذا العبد المؤمن يقبل على
ربه بالطاعة، ويسارع إليه في الخيرات، يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، لا يفوِّت
المواسم المباركة، ولا يفرِّط في جوائزها الكريمة، مستسلمًا، مخبتًا، متذللاً
لخالقه الذي خلقه وأوجده وأكرمه ونعَّمه، وهو مع هذا الإقبالِ وهذا الرجاء لا يأمن
مكر ربه، ولا يُعجب بعمله، ولا يحتقر غيره، ولا يتقاعس عن الديمومة على الصالح من
عمله ولو قلَّ، غيرُ متنطع في التعبُّد، ولا مصرٍّ على المعصية، أيقن بعلم الله
بحاله، وبنظره إليه، إن عبَدَه اتبع، وإن عصاه استغفر، يبتغي الدار الآخرة، ولا
ينسى نصيبه من الدنيا، ويحسن كما أحسن الله إليه، غير مفسدٍ في الأرض؛ لأن الله لا
يحب المفسدين.
إنه
عبدٌ خطَّاء، لكنه توَّاب، ولهذا دخل في عداد المتقين، فإن الله تعالى: {وَسَارِعُواْ
إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ
أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين. الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء
وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِين. وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ
أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ
يَعْلَمُون. أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ
تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ
الْعَامِلِين}.
وكثيرًا
ما ينتاب هذا العبدَ الصالحَ وجلٌ وتغشاه الشفقة أن يُرَد عملُه، فهو في سؤال دائم
أن يتقبل الله منه، ولسان حاله يقول:
إلهي إنْ جهلْتُ فأنتَ أدرى بما صنعتْ يدايَ وما كسبْتُ
على ثقةٍ بعفوكَ يا إلهي قصدتُك أنتَ أرحمُ مَنْ قصدْتُ
وجئتك أشتكي آلامَ روحي أنا يا ربُ من ذنبي تعبْتُ
لوانَّ الكونَ كلُّ الكون ذنبي وقفتُ أمامَ بابك ما يئسْتُ
((شعر: محمد المقرن))
وكيف
ييأس هذا العبدُ المؤمن، وبينه وبين الله صلة وثيقة، ففيها يسأله ويدعوه، وبها
يتضرع ويشكو إليه، يتحنن إليه أن يستر عليه، ويلح عليه فلا ينقطعُ عنه، يدعوه
بصدق، ويقبل عليه بالكلية، موقنًا بأنه السميع المجيب، الذي سيكشف عنه ضره، ويدفع
عنه البلاء، ويغفر له الذنب، لا أحد إلا هو، وحده لا شريك له، هو الله، الله الذي
دلنا عليه، الله الذي هدانا إلى دينه، الله الذي علمنا أن نقف بين يديه، الله الذي
إذا سألناه أحبَّنا، وإذا دعوناه أجابنا.
لا
تعظم عليه سبحانه همومك مهما كانت، ولا تثقل عليه غمومك مهما كثرت، فالعبد المؤمن
يدرك أن ربه هو العظيم، الذي بيده الخير، وعنده خزائن السموات والأرض، ولذا يتحين
السَّحر فيستغفره من كل ذنوبه، صغيرِها وكبيرها، ويتحرَّى ساعة الاستجابة في هذا
اليوم فيطلبه أن يرفع عنه ما أثقل كاهله من الديون والمرض والبلاء وضيق الصدر،
يناجيه سرًا، ويدعوه خُفية وخيفة:
كم بِتُّ في ظُلماتِ الليلِ مُنفردًا أشكو إلى الله آلامًا أُلاقيها
ففي الفؤادِ همومٌ كنتُ أكتمها وما لغيركَ يا رحمنُ أحكيها
إنِّي لأرفعُ كفِّي حين أرفعُها لخالقي ودموعُ العينِ ترويها
فأُغمِضُ الجفنَ والآلامُ ذاهبةٌ لأنَّ ربي بحُسْنِ الظَّنِ يَطويها
شعر: ماجد عبدالله
أيها
المسلمون: تبيضُّ صحائف العبد بمكفرات الذنوب، من وضوء وصلاة وجمعة وصيام وعمرة
وحج، فما أحلم الله على عبده، وما أكرمه بنعمه، وما أجمل أن يستلذ التائب بتوبته
فيسعد بطيب الحياة الآمنة، آمنةٌ بالطاعة، آمنةٌ بالاستغفار، آمنة بالبعد عن
الحرام، آمنة بصحبة الأخيار، آمنة بنشر الخير والدعوة إليه، آمنة بالإنفاق في
سبيله، آمنة بالخلوة معه، آمنة بالبر والإحسان، والصلة والحب والوئام.
عن
أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمِعْتُ رسول الله e يقول: (قال الله تبارك وتعالى: يا ابنَ آدمَ، إنكَ ما دعوتَني
ورجوتَني غفرتُ لكَ على ما كان فيك ولا أُبالي، يا بن آدم، لو بلَغَتْ ذُنوبُكَ
عنانَ السماء، ثمَّ استغفرتَني غفَرْتُ لَكَ ولا أُبالي، يا بن آدَمَ، إنَّكَ لو
أتيتني بقُراب الأرض خطايا، ثم لقيتَني لا تُشرِكُ بي شيئًا، لأتيتُكَ بقُرابها
مَغْفِرةً)) رواه الترمذي وصححه الألباني.
اللهم
اغفر لنا فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
الخطبة
الأخرى:
الحمد
لله الأول والآخر، والظاهر والباطن، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه
وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما
بعد: فإن الداء الأشدَّ في عمر العبد هو الغفلة، الغفلة عن النعم، والغفلة عن
المنعم، والغفلة عن الذكر، والغفلة عن الشكر، والغفلة بالمحرمات، والغفلة عن
الطاعات، والغفلة بصحبة الماجنين، والغفلة بهجران الصالحين، وأشدُّها غفلة: غفلة عبدٍ
عن توبةٍ صادقةٍ نصوح إلى ربه الرحيم.
فو
اعجبًا كيف يغفل العبد عن الله وهو الذي خلقه ورزقه وأمهله، وهو الذي إن أراد سبحانه
سلب منه ما أعطاه، وأخذ منه ما ألبسه وأهناه.
فالعبد
المؤمن يقظٌ، لا تغره الدنيا، ولا تخدعه الأمنيات، بل متطلع إلى ما عند الله من
الفضل، سائرٌ في سبيله، حتى إذا لقيه، لقيه وهو يحسن الظن فيه، واللهُ عندَ حسنِ
ظنِ عبده فيه، كيف لا وهو الكريم، وهو المعطي، وهو الستير، وهو الغفور الرحيم.
قال e : (إنَّ
اللَّهَ يُدْنِي المُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عليه كَنَفَهُ ويَسْتُرُهُ، فيَقولُ:
أتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فيَقولُ: نَعَمْ أيْ رَبِّ،
حتَّى إذَا قَرَّرَهُ بذُنُوبِهِ، ورَأَى في نَفْسِهِ أنَّه هَلَكَ، قالَ:
سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ في الدُّنْيَا، وأَنَا أغْفِرُهَا لكَ اليَومَ، فيُعْطَى
كِتَابَ حَسَنَاتِهِ) رواه البخاري.
اللهم
إنك أنت غفار الذنوب، سترتها علينا في الدنيا، فاغفرها لنا إذا وقفنا بين يديك.
ومَن ذا الذي يَذكرُ المصطفى وخافِقُه لا يَحِنُّ إليه؟
يزيدُ وَجِيفًا، ويَزدَادُ شَوقًا ويرتاحُ لما يُصلِّي عَليه
اللهم صل وسلم على
نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرا.
اللهم أعز الإسلام
والمسلمين، واحم حوزة الدين، وانصر عبادك الموحدين، اللهم احفظ هذه الأرض من شر
الأشرار، وكيد الفجار، اللهم من أرادها وبلاد المسلمين بسوء فأشغله في نفسه واجعل
كيده تدميرًا له، اللهم إنك أنت القوي فأمدنا بقوتك، وإنك أنت الحليم فأسبغ علينا
حلمك، وإنك أنت الرحيم فأنزل علينا سكينتك، وإنك أنت الرزاق فامنن علينا بكريم
رزقك، وإنك أنت العفو فاسترنا بعظيم عفوك، اللهم انصر المسلمين في كل مكان، وأمدهم
بمدد من عندك وجند من جندك، واحفظ ديارهم وأموالهم وأهليهم، ورد عنهم بقوتك
وجبروتك، اللهم وفق إمامنا خادم الحرمين الشريفين وولي عهده للعمل بما يرضيك،
واجعلهم هداة مهتدين، سلمًا لأوليائك، حربًا على أعدائك، ووحد على الحق كلمتهم،
ووفقهم لإصلاح رعاياهم، وانصر جندنا بالحق على الظالمين المعتدين، اللهم احفظ حجاج
بيتك الحرام، وردهم إلى أهليهم سالمين غانمين، وقد تقبلت منهم حجهم، وشكرت لهم
سعيهم، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولأحبابنا ولجميع المسلمين، واشف مرضانا واقض
ديوننا، وأصلح أحوالنا وذرياتنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه
أجمعين.
تعليقات
إرسال تعليق